كشف وباء الفيروس التاجي عن القيود التي تحد من النهج الحالي الذي تتبعه الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الصحة العالمية، وكان الخبراء قد توقعوا منذ فترة طويلة انتشار فيروس تنفسي معد بسرعة، ولكن في حين ارتفع الإنفاق على الصحة العالمية بمعدل سنوي بلغ في المتوسط 3.9 % من عام 2000 إلى عام 2017، إلا أن بلدان العالم لم تكن مستعدة لوباء كورونا، والإغلاق العالمي والصدمات الاقتصادية التي أعقبته.
هذا واثبتت الدراسات أن النساء تواجه تحديات فريدة خلال الأزمات الصحية العالمية، حيث فاقم وباء كورونا أوجه عدم المساواة بين الجنسين، بما في ذلك العنف المنزلي والوصول إلى الرعاية الصحية الحيوية، كما عانت المشاركة الاقتصادية للمرأة.
ووفقاً لمنظمة العمل الدولية والمرأة في الأمم المتحدة، فإن 41 % من النساء يعملن في القطاعات الأكثر تضرراً من الوباء، بما في ذلك الضيافة والعقارات والأعمال التجارية والتصنيع والبيع بالتجزئة.
وبحسب مجلة "فورين بوليسي"، وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة ماكنزي للاستشارات الإدارية، أن الوباء قد أثر سلبا على النساء، ولا سيما النساء غير البيض؛ حيث تدرس واحدة من كل ن ساء تحويل مسيرتهن المهنية أو ترك القوى العاملة بالكامل.
وفي حين أن صانعي السياسات كثيراً ما ينظرون إلى النساء على أنهن ضعيفات، إلا أنهم نادراً يدركن أنهن عوامل تغيير حاسمة في التأهب للأزمات والاستجابة لها، وكان أداء النساء القلائل اللواتي مُنحن أدوارا قيادية خلال الوباء أفضل في المتوسط من أداء نظرائهن من الرجال، بدليل إعادة انتخاب رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن في أكتوبر الماضي على خلفية استجابتها الناجحة لكوفيد-19.
ومع ذلك، لا تزال المرأة ممثلة تمثيلا ناقصا بقدر كبير في مناصب السلطة في الحكومة وفي جميع أنحاء النظام الصحي العالمي.
ومن شأن الاستجابة الفعالة للجائحة الحالية والتحضير للوباء التالي، أن تتطلب استراتيجية جديدة لدعم النظم الصحية، بما في ذلك الاستثمار في النساء، فمن الضروري ضمان تمثيل المرأة في النظام الصحي العالمي والقيادة السياسية.
ولكسب المعركة ضد الفيروس التاجي وأي مرض معدي في المستقبل، يجب على المجتمع الصحي العالمي والحكومات الوطنية الاستفادة من جميع المواهب والخبرات في العالم، وليس النصف فقط.
إذ يتجاهل المسؤولون الحكوميون والنظم الصحية في كثير من الاحيان الدور الحاسم للمرأة كعاملة في مجال الرعاية الصحية وأول المستجيبين في مجتمعاتهن المحلية.
وتشكل النساء غالبية العاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية على الصعيد العالمي، بنسبة تصل إلى 70 % من العاملين الصحيين والاجتماعيين في المجتمع.
وتسهم المرأة، من خلال العمل المدفوع الأجر والتطوعي، بأكثر من 3 تريليونات دولار سنويا في قطاع الصحة العالمي، وهي مساهمات كبيرة، لا سيما لأن العاملات الصحيات حققن نجاحاً ملحوظاً في تغيير الممارسات الأسرية، مثل زيادة تنظيم الأسرة والتحصين، والنظافة الصحية والتصدي لانتشار الأمراض.
وعند النظر إلى تأثير رابطة جيش النهوض بالمرأة في إثيوبيا وبرنامج متطوعات الصحة المجتمعية في نيبال، نجد أن كلا من المبادرتين قد اسستا شبكة شعبية من المتطوعات لسد الفجوات بين النظام الصحي الرسمي والمجتمع المحلي، ونشر المعلومات الحيوية، وتحسين إحالات الرعاية الصحية، وفي الفترة ما بين عامي 1991 و2001، حدث انخفاض بنسبة 80 % في معدل وفيات الأمهات في نيبال بعد تطبيق برنامج متطوعات الصحة المجتمعية في نيبال.
كما حققت النساء اللواتي يقودن الرابطة في إثيوبيا نجاحاً ملحوظاً، حيث خفضن معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة في إثيوبيا بنسبة 69 % بحلول عام 2013، أي قبل عامين من الموعد النهائي الذي حددته الأهداف الإنمائية للألفية.
وعلى الرغم من التمثيل المفرط للنساء في الخطوط الأمامية لفرق الاستجابة الصحية العالمية، لا تزال الحكومات التي تعتمد على مساهمة النساء لضمان عمل نظمها الصحية، تقلل من تقدير النساء، فمن بين الـ 3 تريليونات دولار التي تساهم بها العاملات في مجال الرعاية الصحية في الاقتصاد العالمي سنوياً، هناك ما يقدر بنحو 50 % في شكل عمل غير مدفوع الأجر.
ويجب على المسؤولين الحكوميين أن يفعلوا أكثر من مجرد التصفيق للنساء في الخطوط الأمامية؛ حيث يجب أن يتكفلوا ظروف عمل عادلة، بما في ذلك الاجر العادل.
كما أن المرأة تؤدي أدواراً حاسمة في صحة أسرتها المعيشية، والتي تعتبر النقطة المحورية في تحديد المرض والقضاء عليه، فخلال الجائحة، يتم عادةً إبلاغ أول علامة للمرض إلى ربة أسرة سواء كانت أم أو عمة أو جدة، والتي تعمل كصانعة القرار الأساسية بشأن العلاج والعزلة والإبلاغ.
وينبغي أن تقوم استراتيجيات التأهب للوباء بتمويل وتطوير وتوزيع الأدوات الرقمية اللازمة لجمع هذه البيانات، ويمكن لهذه النظم التي تستفيد من المعلومات على مستوى الأسر، بدلا من انتظار الأفراد للإبلاغ عن مرضهم أو اللجوء للمستشفى، أن تساعد النظم الصحية العالمية على التحكم في انتقال العدوى.
ويمكن للتدريب والأدوات الرقمية، التي توفرها النظم الصحية الوطنية والمصممة خصيصاً لأدوار النساء كعاملات في الخطوط الأمامية وربات منزل، أن تؤدي إلى استخدام أكثر استهدافاً للمرافق الطبية، مما يقلل من الأعباء الناجمة عن الحالات التي يمكن علاجها افتراضيا.
كما من شأن ذلك أن يحسن عملية تقديم التقارير في الوقت المناسب إلى سلطات الرعاية الصحية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تعزيز الكشف المبكر عن الأمراض ومكافحتها والوقاية منها.
ويمكن للنظم التي تدعم الذكاء الاصطناعي والمراعية للاعتبارات الجنسانية أن تحسن النظم الصحية أيضا، فعلى سبيل المثال، يمكن لهذه النظم أن تتضمن المشورة الطبية في الاستجابات التي تعكس صراحة دور المرأة كمقدمة للرعاية الصحية في أسرتها، ومن شأن هذه الإصلاحات أن تفيد المرأة وأسرتها.
ومن شأن قدرة النساء على تقديم الرعاية لأفراد الأسرة الموسعة على أساس أدلة طبية أفضل أن يزيد من جودة الرعاية والنتائج الصحية، فضلا عن خفض التكاليف، ومنح النساء مهارات جديدة قابلة للتسويق.
وعلاوة على ذلك، تمثل النساء مجموعة ضخمة غير مستغلة من القادة في جميع أنحاء العالم، فبالإضافة إلى نقص التمثيل في القيادة السياسية، يعتبر عدم المساواة بين الجنسين مشكلة مستمرة في جميع المنظمات الصحية العالمية، بما في ذلك وزارات الصحة ووفود الهيئات العالمية؛ والمؤسسات المتبرعة، وذلك على الرغم من أن البحوث تظهر أن التنوع بين الجنسين يرتبط بتحسين الإدارة، وانخفاض الفساد، وزيادة الدعم للإصلاحات في مجال الصحة العامة، كما ترتبط مشاركة المرأة في الحكم أيضاً بزيادة احتمال التوصل لتسويات سياسية، وهي ميزة حيوية في عصر أصبح فيه حتى ارتداء قناع الوجه مثيراً للجدل.
وفي خضم ذروة الموجة الأولى من الوباء، في مايو 2020، كانت معدلات الوفيات في البلدان التي تشغل فيها النساء مناصب قيادية أقل بـ 6 أضعاف من البلدان التي يقودها الرجال، حيث فرضت البلدان التي تقودها النساء الاغلاق في وقت سابق وكانت معدلات الاختبارات أعلى وحالات انتشار اقل من البلدان النظيرة التي يقودها الرجال.
وأخيراً، كشفت البحوث أن القيادات النسائية أكثر ميلا للتعامل مع الشواغل المتعلقة بالمساواة بين الجنسين ، وهو منظور بالغ الأهمية للتعافي، نظراً لتأثير الوباء غير المتناسب على المرأة، إلا أن هذا الامر نادر جداً، حيث وجدت دراسة حديثة أجرتها منظمة "كير" أن غالبية البلدان الثلاثين التي شملتها الدراسة، لم يكن لديها استجابة شاملة للجنسين فيما يتعلق بكورونا، وأدى فشل الحكومات في تقديم استجابات منصفة بين الجنسين لترك قضايا مثل العنف الجنساني تتدهور وتقلص فرص الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية، على الرغم من آثارها الحيوية على رفاهية المجتمع.
وفي ضوء اجماع العلماء على أن هذا الوباء لن يكون الأخير، وضرورة الاستعداد لمواجهة الأزمة التالية، ينبغي أن يستفيد المجتمع الصحي العالمي من مواهب واستراتيجيات المرأة، ويستثمر في مشاركة المرأة الكاملة في جهود الاستجابة الصحية العالمية وقيادتها، لضمان مستقبل أكثر صحة وازدهاراً وأمناً للجميع.